أيها الأموات عودوا، فقد خلت المدينة من صراخ الغضب، من صوت الاحتجاج، من نبض الحياة.

عودوا، فالأحياء هنا يعيشون تحت وطأة الصمت، الهامد، المستسلم، كأنهم ماتوا وقوفا.

في آسفي، المدينة التي تعاقبت عليها أزمنة من التهميش والنسيان، تعيش ساكنتها اليوم مأساة جديدة عنوانها الانقطاع المتكرر للماء الصالح للشرب، مأساة لا تليق بمدينة تدّعي السير في ركب التنمية، وتطل على واجهة بحرية غنية وتحتضن من الثروات ما يكفي لإرواء مدن بأكملها.

لكن المأساة لا تقف عند الانقطاع فقط، بل تتجلى في اللامبالاة الجماعية، فلا احتجاجات في الشارع، لا بيانات، لا صوت يُسمع إلا داخل جدران المقاهي أو منشورات الفايسبوك، نعم الآسفيون غاضبون، لكنه غضب افتراضي لا غير، لا يكاد يتجاوز شاشة هاتف أو همهمة خافتة على طاولة مقهى، أو وشوشة داخل سيارة أجرة، كأن المدينة تآلفت مع الإهانة، واستأنست باللاعدالة، واقتنعت أن صوتها لا يساوي شيئا.

والمفارقة المؤلمة، أن هذا الصمت الجماعي لم يكن ليحدث لو تعلق الأمر بهزيمة كروية للفريق المحلي، حينها لكان الغضب الجماهيري عارما، والمظاهرات لا تهدأ ولا تتوقف، والاحتجاجات الحائطية تزين الجدران المهملة للمدينة، ولو تعلق الأمر بافتتاح محل عطور أو ماركة عالمية، لرأيت الناس يقفون في طوابير طويلة منذ الساعات الأولى، أما حين يكون الأمر مصلحة عامة، حاجة أساسية كالماء، وكرامة مهدورة لمدينة وساكنتها… فلا بأس، لا ضرر ولا حرج.

في لحظة كهذه، لا يمكن إلا أن نستحضر أسماء مناضلين من الزمن الذي كانت فيه آسفي تصرخ من أجل حقوقها، وتقف بشموخ أمام الظلم والإجحاف، أين أنتم يا محمد بن الطيب الوزاني، يا صالح العبدي، ويا صلاح الوديع، ويا كل من واجهوا الفساد بأجسادهم وأصواتهم؟ أين أصوات النقابات التي كانت تُسمع في الشوارع، في المعامل، وفي قلب الميناء، ذاك الذي طالما كان رمزا للنضال والكرامة؟

يبدو أن الأرض التي أنجبتكم أصبحت عاقرا، ولم تعد قادرة على إنجاب من يشبهكم، أو لعلها أنجبت، لكننا خذلناها، خذلنا التاريخ، وخذلنا المدينة.

أين المجتمع المدني؟ أين الفاعلون المحليون؟ أين المنتخبون؟ بل أين الدولة؟ أبهذه اللامبالاة تُدار الأزمات؟ أبهذا الصمت تُبنى المدن ويُصان الحق في العيش الكريم؟

ما يحدث اليوم في آسفي ليس مجرد أزمة ماء، بل أزمة وعي، أزمة أولويات، أزمة موت معنوي لمدى الإحساس بالمصلحة العامة، وعليه وأمام كل هذا ليس أمامنا سوى مخاطبة الأموات وأقولها بأعلى صوتي ولو أننا لسنا مسمعين من هم في القبور: “أيها الأموات عودوا… فالأحياء ماتوا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!