بعد قضائي زهاء أربعين سنة في سلك الوظيفة، في خدمة وطني، والتضحية من أجل أبناء بلادي، توصلت بقرار إحالتي على التقاعد، وقد اشتعل الرأس شيبا، وتيبست مفاصلي، وأنهك الدواء جسدي، وفقدت بعض أعضائي جزءا من وظائفها البيولوجية والفيزيولوجية.

دخلت الوظيفة شابا يطمح في الحياة، محملا بالشهادة والديبلوم والكفاءة، ومتسلحا بأمل تقديم قيم مضافة لي ولمحيطي وللآخرين، وغادرت هرما عاجلا أترقب ساعة الرحيل، دخلت خالي الوفاض طامعا في أن أغير الحال والأحوال، وخرجت منها عاريا مثقلا بديون وكمبيالات، أضعفتني وأضعفت حتى عكازتي، عصاي التي أتوكأ عليها وأهش بها على قطيع الهموم والمشاكل.

حقا هي سنة الحياة، ولكن ما ليس حقا هو أن يكون التكريم جحودا ونكرانا، هو أن تلفظني الدولة بدون أي اعتبار يليق بكرامتي للإنسانية والعملية والوطنية، وكأنها تطردني بعد أن أفنيت العمر في أداء الواجب، والقيام بالمهام التي أنيطت بي بكل التفاني المنشود.

أربعون سنة بقيمة الدهر كله، (ما يحسبها غير الفم) تنتهي بكل بساطة وكأنك لم تكن يوما موظفا، أو أجيرا، أو مستخدما، مصحوبا بورقة هي القرار، وسطر شكر وإخبار بالتشطيب عليك من الوظيفة.

الغريب أنك تغادر عملك وقد أثخنتك جراح المراقبة والمحاسبة، وكدمات القرارات الإدارية والانضباطية، وفي الوقت الذي تقول فيه: (ها قد آن الأوان لترتاح نفسي ويستريح جسدي)، تجد نفسك شخصا مترهلا في حاجة إلى أقراص التهدئة، ومسكنات آلام الأمراض المزمنة ولتصبح بدلا من التنعم بحرية طال انتظارها مقيدا ومكبلا بطواف يومي عبر العيادات والمصحات والصيدليات، متأبطا ملفات التعاضدية والتأمين.

وقد لا يجد الكثير بدا من التساكن في المقاهي صباحا، للتسابق إلى الجرائد لالتهامها مجانا، أو تحفيز الذاكرة لإيجاد الحلول للكلمات المتقاطعة والمسهمة، (عاصرين) على كأس قهوة سوداء تلهي نسبيا عن سوداوية الظروف المعاشة.

المتقاعدون المغاربة إلا من رحم ربك، يحلمون بحجة وعمرة، وبسفريات داخل المغرب وخارجه، لتعويض ما فات، ويمنون النفس بتحقيق أحلام راودتهم حين كان الوقت لا يسمح، ولكن الأقساط الشهريةالمتعددة والمتعلقة بدراسة الأبناء، وقبر الحياة، والتجهيز المنزلي، ومصاريف العلاج وعدم الزيادة في رواتب المعاشات، تجعل أمانيهم موؤودة وأحلامهم تتكسر على صخور اللامبالاة، وإفلاس صناديق التقاعد التي تم نهبها، وأصبحت غولا يهدد المتقاعدين بعدم صرف المعاش الهزيل والزيادة في الاقتطاعات الشهرية.

المتقاعدون المغاربة غالبا ما يحسون بالخيبة حين يلاحظون أفواج أمثالهم من أوروبا يجوبون مدن المغاربة بسياراتهم ودراجاتهم وعبر رحلات منظمة ينامون بمتعة الطبيعة، بلا هم ولا غم ولا كدر، ورغم أنهم شيوخ ومعمرون يرونها في نشاط الشباب والكهول.

أما المتقاعدة فذاك عالم آخر، إذ غالبا ما تتحول إلى حاضنة لأحفادها أو شبه خادمة متطوعة في بيوت أبنائها إن كانت ظروفها الصحية تسمح بذلك، والا فالبيت يحكي عن اتصالات هاتفية لا تتوقف، وعن أوجاع بأعراض الشيخوخة ممنوع البوح بها.

حكومتنا الموقرة ومسؤولوها المبجلون الذين لا يتقاعدون، ما أن يغادر المتقاعد كرسي مكتبه، أو ورش عمله حتى يصدون ظهرهم عنه، ويمحونه من قواميس الترقية، والعناية والدعم، ومن الاستفادة من التعويضات أو الزيادات، وحتى النقابات تتناساهم وكأنهم لم يكونوا يوما من مناضليها ومنخرطيها، ما يشجع الحكومة على الإزعاج في تحقيرهم، لأنها تعرف أن غالبيتهم لا يحتملون التظاهر والاحتجاج والمسيرات، وأنهم نفر قليل لا يسمن ولا يغني من جوع، هذه هي رؤيتهم لمن حملوا على عاتقهم نهضة المغرب، واستقرار المغرب، وبناء المغرب، هذه هي رؤيتهم لمن كانوا جسر العبور لأربعة عقود من الأجيال، لمن ربوا وكونوا، لمن علموا وبنوا، لمن هندسوا و عالجوا، لمن شقوا الجبال ورصوا الطرق والقناطر، لمن قاوموا ودافعوا عن سلامة الوطن وحمايته، هكذا وبكل أسف، يشترونها ويجازونهم ب(الفقسة)، ويسارعون بهم نحو القبور.

المتقاعدون اليوم، سيظلون أحياءا في ذاكرة وتاريخ البلاد، لأنهم هم من صنعوا هذا الحاضر، وحتى وإن تنكرت لهم الأحزاب والنقابات، وحتى وإن خذلتهم الدولة يكفيهم فخرا انهم أدوا الامانة، ويكفيهم شرفا انهم بلغوا الرسالة بتضحيات لا ثمن لها ،، أجساد أكلها الصدأ، و وادمغة طالها النسيان، وخبرة ترفض التلف،” ورغم ذلك تتجمل بالصبر، ولا تؤذي البلد، ولا تشوه سمعته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *